هل ضاعت أوكرانيا بغزو روسي وإنتصار أمريكي وهزيمة أوروبية |جريدة الراي

بتاريخ :الأحد 27 فبراير 2022

الناشر :شريف   عدد المشاهدات : 406 مشاهدات

 

بقلم/ يوحنا عزمي 

الولايات المتحدة أصبحت أكبر منتج للنفط في العالم
بعد ان تجاوزت إنتاج كل من السعودية وروسيا ، كما أصبحت أكبر مُصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم
وللسوق الأوروبية بعد ان نجحت في إقصاء قطر من
هذين المركزين وبذلك أصبح إنتاج النفط والغاز في
الولايات المتحدة أحد الأصول الجيوسياسية والاقتصادية الهامة للدولة.

السوق الأوروبية أكبر مستهلك للغاز الطبيعي في العالم وروسيا هي المنافس الرئيسي فيه ، لأن معظم إنتاج السعودية يتم بيعه لدول القارة الآسيوية ..

حصة روسيا تقدر بقرابة 40% من احتياجات القارة العجوز من الغاز و30% من النفط ، مما يفسر لماذا سعت واشنطن لإخراج روسيا من الأسواق الأوروبية ، رغم تقديرها بأنها رسخت أقدامها عبر سنوات طويلة ، باستثمارات ضخمة
في البنية الأساسية لشبكة نقل الغاز ، مما يجعل المعركة
بالغة الصعوبة. 

أمريكا سعت لتصعيد التوتر بين أوكرانيا وروسيا إلى الحد الذي يكفي لإثارة أزمة ، تضمن عرقلة تدفقات الغاز الروسي لأوروبا، خاصة ما يتعلق بخط الأنابيب الجديد"نورد ستريم٢" الذي انتهت روسيا من تشييده بتكلفة 11.5 مليار دولار .. ليضخ الغاز إلى المانيا مباشرة ، دون المرور على أوكرانيا
مما يضاعف حجم تصدير الغاز مباشرة إلى ألمانيا ليبلغ 110 مليارات متر مكعب سنويا. 

إختيار أوكرانيا لم يكن جزافيا ، وإنما لأن قرابة ثلاثة
أرباع الغاز الروسي المصدر عبر خطوط الأنابيب لأوروبا
يمر بأراضيها ، وهذا يمثل مركز الأزمة ، لأن عائدات بيعه بالنسبة لروسيا ، تمثل مع النفط 70% من إيرادات الميزانية وعائدات مروره تمثل أحد أهم مصادر دخل أوكرانيا ، ناهيك عن اعتبارات أخري عديدة أهمها ان أوكرانيا تعتبر الباحة الأمامية للأمن القومي الروسي. 

تفجير الخلاف بين أوكرانيا وروسيا على هذا النحو كان
كفيلاً بالتهديد بوقف ثلاثة أرباع صادرات الغاز الروسية 
أما الربع الأخير الذي يمثله "نورد ستريم2" فإن منع تشغيله جاء على قمة بنود العقوبات التي تم فرضها على روسيا وذلك بعد الضغوط التي مارسها بعض أعضاء الكونجرس الأميركي بهدف منع تشغيله ، حتى لا تمارس موسكو نفوذا أكبر على الدول الأوروبية ، وحتى لا يتم حرمان أوكرانيا حليفة الغرب من رسوم عبور الغاز.

تزويد واشنطن كييف بـ 650 مليون دولار معدات وخدمات عسكرية خلال عام 2021، وارتفاع نبرة ضم أوكرانيا للناتو كان يستهدف إثارة موسكو ، التي أكدت بوضوح منذ اليوم الأول أنها لن تسمح بتحول أوكرانيا إلى مصدر تهديد لروسيا الحشود الروسية على الحدود الأوكرانية تجاوزت 100 ألف جندي ، وتم نقل 30 ألف إلى بيلاروسيا ، ولكن أوكرانيا لم تدرك دلالات ذلك ، وقامت بالعديد من التحرشات العسكرية ضد الإقليمين الانفصاليين ، لأنها كانت على قناعة بصحة تقدير واشنطن الخاص بأن روسيا في أقصى مراحل الأزمة لن تتجاوز حد دعم الانفصاليين بإقليم الدونباس ، وتزويدهم بالأسلحة والعتاد لتأمين سيطرتهم على الاقليم ، بالإضافة إلى وقف ضخ الغاز عبر الأراضي الأوكرانية.

واشنطن غاب عنها أن النزاع قضية أمن قومي روسي
بأمتياز وان فكرة إنشاء منطقة عازلة buffer zone بين روسيا ودول الناتو ، لمواجهة التهديدات المستقبلية المحتملة قد فرضت نفسها على الفكر العسكري والإستراتيجي الروسي إستقلال الأقاليم الانفصالية ، وارتباطها بروسيا سياسيا ودفاعيا حقق جزء من الهدف ، تم استكماله بعمليات القصف الروسي للبنية العسكرية والتكنولوجية في أوكرانيا ، وتنفيذ ما يشبه الاجتياح الصاعق ، من الشرق والجنوب والشمال
مما يضع شبكة نقل الغاز بكاملها تحت السيطرة الروسية خلال أيام معدودة ، ويتيح فرصة إسقاط نظام حكم زيلينسكي الموالي للغرب ، وتنصيب نظام حكم تابع لموسكو وهو ما يعتبر رداً على تغذية الغرب للثورة البرتقالية عام 2004 والإطاحة بنظام الحكم الموالي لموسكو. 

تنفيذا للرؤية الأمريكية ، نجح الرئيس بايدن في إقناع المستشار الألماني خلال زيارته لواشنطن في 7 فبراير 2022 بأنه في حالة تعرض أوكرانيا لهجوم روسي، يتم وقف تشغيل خط أنابيب "نورد ستريم2"، ولذلك بمجرد عبور الدبابات الروسية الحدود الأوكرانية ، أمر وزير الاقتصاد الفيدرالي ونائب المستشار "روبرت هابيك" الشبكة الفيدرالية المنوط بها منح تصريحات للمشاريع على الأراضي الألمانية ، بسحب شهادة التقييم الإيجابي ، التي سبق منحها للمشروع، وبالتالي أصبح الخط الذي سبق تعليق التصديق الخاص به في نوفمبر الماضي غير قابل للتشغيل.

والحقيقة ان روسيا منذ ان انهت تنفيذ" نورد ستريم2" واجهت معارضة شديدة من واشنطن وروما والعديد من العواصم الغربية لتشغيله .. المأزق الذي واجهته موسكو
هو تقدير حدود إستخدام الغاز كسلاح لإجبار أوروبا على الإقرار بالأمر الواقع الذي قامت بفرضه بالقوة ، دون ان
تفقد مصداقيتها كمصدر يمكن الإعتماد عليه مستقبلاً 
لتأمين جزء معتبر من احتياجات القارة الأوروبية من الغاز  لذلك حاولت ممارسة ضغط تدريجي بتقليص صادراتها من الغاز إلى أوروبا بنسبة 23% خلال الربع الأخير من عام 2021 ، مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق ، ووقف ضخ الغاز تماما عبر خط أنابيب "يامال - أوروبا" منذ ديسمبر 2021، مما أدى إلى ارتفاع أسعاره لمستويات غير مسبوقة  خاصة في ظل ضعف نسب الاحتياطيات المتوافرة لدى الدول الأوروبية.

وعلى كل حال فإن روسيا كانت تعتزم قطع امدادات الغاز
عن أوكرانيا بمبرر قيامها بسرقة كميات ضخمة من الغاز المتجه لأوروبا ، بهدف ترويضها ، وذلك بمجرد تشغيل
"نورد ستريم2" حتى لا تتأثر عائداتها المالية.

روسيا ابان سنوات الحرب الباردة بين حلف "وارسو"
وحلف الناتو"، حرصت على عدم المساس بالتعاون مع
أوروبا في قطاع الطاقة ، حتى تحتفظ بموقعها كمورد
موثوق للغاز الطبيعي ، وعلى الرغم من وعد موسكو بعدم قطع الغاز عن أوروبا ، إلا ان تصعيد الغرب للعقوبات المالية والاقتصادية ضدها قد يهدد بإستخدام الغاز كسلاح إستراتيجي للرد ولعل ذلك يفسر ما عبر عنه وزير المالية الألماني كريستيان ليندنر من إن بلاده تخشى رد روسيا على العقوبات الغربية بقطع إمدادات الغاز، وهي خطوة قد تعطل أكبر اقتصاد في أوروبا والحقيقة ان الدول الأوروبية تدرك ان روسيا قادرة بالفعل على شل أنظمة الطاقة في القارة ، ورفع أسعارها على نحو يؤدي إلى ارتفاع هائل في الأسعار ، ولعل ذلك يمكن ان يكون السبب في تفتيت وحدة التعامل الغربي مع الأزمة ، الذي بدأ بالفعل بتحفظ فرنسا وإيطاليا على طرد روسيا من نظام تداول العملات الموحد "سويفت". 

الغرب عجز عن تفهم شخصية بوتين ، وديناميات القرار السياسي في عهده ، خاصة عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي الروسي، روسيا أعطت أولوية مطلقة لأمنها القومي ونجحت في التصدي لتهديدات جدية تمثلها توجهات نظام حكم "زيلينسكي" ، وعلاقته بالغرب ، وسعيه لجلب الأسلحة الإستراتيجية لحلف "الناتو" للتمركز على الحدود الروسية.

وللحق فإن روسيا طلبت قبل الاجتياح ضمانات كانت
تصلح أساسا جيداً للتفاوض ، ولكن سبق السيف العزل  وأصبح العالم يتجه نحو أزمة طاقة بالغة الحدة ، وارتفاع خرافي للأسعار على مختلف المستويات، والأخطر هو حالة استقطاب شديدة بين أمريكا وأوروبا من ناحية ، في مواجهة روسيا والصين من ناحية أخرى ، مما سيعيد شبح الحرب الباردة بكل ضراوتها من جديد.

أوروبا تعتزم تنويع مصادر وارداتها من الطاقة ، وتشييد محطات معالجة حتى تتمكن من الإعتماد أكثر على الغاز المسال ، ويعنى ذلك عدم العودة للاعتماد على روسيا بشكل كامل على نحو ما تم ، وهو تطور ولا شك يصب في مصلحة مصر ، التي تستطيع تصدير المزيد من الغاز للأسواق الأوروبية ، غير ان الواقع يفرض عدم المبالغة في تقدير حجم قدرة مصر على تعويض أي نقص في السوق الأوروبي. 

لأن إجمالي صادرات مصر من الغاز المسال عام 2021
بلغت قرابة 6.5 مليون طن ، صادرات أستراليا بلغت في نفس العام 80 مليون طن ، وقطر تراوح نفس الرقم ، ورغم ذلك فكل ما وعدت به قطر ان تسد 5% فقط من حصة روسيا من الغاز للأسواق الأوروبية .. إذن علينا ان ندرك ان مصر تطور إنتاجها وصادراتها بأعلى معدل عرفه العالم ، لكنها لاتزال في البدايات ، فلا نحمل أنفسنا ما لا طاقة لنا به.

- وأخيراً نتساءل ما هي البدائل المطروحة أمام مصر
من الناحية السياسية؟!

مما لا شك فيه أن واشنطن ستمارس ضغوطا دولية عديدة لحشد أكبر قدر من الإدانات لموسكو.. أمريكا دولة براجماتية تحركها مصالحها لا مبادئها ، وتتفهم ذلك في تعاملاتها ، حتى وإن أبدت عدم الرضا ، نظام "زيلينسكي" بدأ عده التنازلي وستحل محله حكومة تتلقي تعليماتها من موسكو.

مصر لا يمكن ان توافق على فقدان دولة لاستقلالها السياسي على أيدي جار عملاق، أيا كان سبب الخلاف، إلا إنه ليس من المصلحة أيضا التضحية بمصالحنا مع روسيا، القطب الدولي الجديد، لحساب حكومة فقدت القدرة على عمل تقدير موقف لقوة الجار وقدراته مقارنة بما تمتلكه ، فذهبت ولن تعود.

هنا أنسب المواقف السياسية تلك التي تشير إلى مبادئ حل الخلاقات بالطرق السلمية، وتجنيب المدنيين ويلات الحروب مع تقديم الدعم للاجئين الأوكران ، بما فيهم من لجأ للأراضي الروسية ، خسرنا الكثير بسبب فقدان الكياسة في التعامل مع روسيا ابان الأزمات ، لكن الظروف تفرض معالجة أفضل. 

أوكرانيا ضاعت تحت تأثير الشقاق الوطني ، والغزو الروسي وأمريكا نجحت في إشعال الحرب ، كي تصبح المورد الأول للطاقة إلى السوق الأوروبية ، أما أوروبا فهي مقبلة على أيام سوداء قد تكون مبررا للشقاق مع الحليف الأمريكي.

اخبار أخري

جميع الحقوق محفوظة لجريدة الراي المصرية