يحيى الفخراني… الممثل الذي نسي كيف يمثل، فصار هو الفن ذاته"

بتاريخ :الاثنين 21 إبريل 2025

الناشر :مى باسم   عدد المشاهدات : 332 مشاهدات

الكاتب الصحفي والناقد الفني عمر ماهر يكتب "
في عالم تتغيّر فيه الوجوه كما تتغيّر الفصول، يبقى بعض الفنانين كما الجبال… شامخين، ثابتين، يتكئون على الموهبة، لا على ضجيج الشهرة. من بين هؤلاء، هناك اسمٌ لا يحتاج إلى تعريف، ولا مقدمة، ولا شهادة من أحد… إنه يحيى الفخراني. رجلٌ لم يتعلّم التمثيل، بل خُلق وفي قلبه كاميرا، وفي صوته نصّ مكتوب بحبر التجربة، وفي ملامحه رواية لا تنتهي.
نحن لا نشاهد يحيى الفخراني…

نحن نُصغي إلى التاريخ يتكلم، نرى الزمن يبتسم، ونلمس وجداننا يرتعش مع كل مشهد، كل تنهيدة، كل صمت. إنه النادر الذي لا يؤدي الشخصية، بل يسكنها. لا يمثل الدور، بل يصادقه، يلتصق به حتى ينساه المشاهد، ويظن أنه يشاهد إنسانًا حقيقيًا يعيش أمامه لحظةً بلحظة، لا فنانًا يؤدي.

إنه الفخراني، ذاك الكائن الذي اخترق عالم الفن بإرادة الطبيب، فداوى أرواحنا بمشرط التمثيل لا بالدواء. ترك الطب ليُجري عمليات جراحية من نوعٍ آخر: عمليات في القلب والروح والوعي. قدّم لنا مشاهد تُعادل مئات الصفحات من الفلسفة، ووجوهًا نعرفها أكثر مما نعرف أنفسنا. جعلنا نحبّ أبًا، ونكره مسؤولًا، ونتعاطف مع قاتل، ونبرر موقف خائن… لأنه ببساطة لا يُقدّم الشخصيات كما هي، بل كما من المفترض أن نراها، بتعقيداتها الإنسانية، وتناقضاتها العاطفية، وضعفها النبيل.

1. حين يخلق الإنسان من الفن دينًا

يحيى الفخراني لم يكن يومًا ممثلًا عاديًا. لم يبحث عن وسامة زائفة أو ضحكة رخيصة. هو رجل خلق من التمثيل رسالة، ومن الدراما فلسفة، ومن التعبير ملاذًا. جعل من المشهد حالة شعورية تتجاوز الورق، ومن النصّ روحًا تُطوف في المكان. لم تكن البطولة بالنسبة له هدفًا، بل عبءًا يستحق أن يُحمل بصدق، لذا حملها كما يُحمل الولد الوحيد، برِقة المسؤولية وحرارة القلب.
أعطى من عمره ما لا يُقدّر، وأهدى من فنه ما لا يُشترى. لم يتصنّع، لم يتكلف، لم يتلوّن. كان هو كما هو دائمًا، رجلًا يعرف حدوده، لكنه يغامر في حدود النص. يعطي للدور أكسجينًا، للحوار نبضًا، وللدراما أمانًا ضائعًا.

2. الفن الذي يتجاوز الشخصية…

هل يمكن أن تفصل يحيى الفخراني عن الشخصية التي يلعبها؟ لا. لأنه لا يلعب الشخصية، بل يُعيد خلقها. يتحول أمامك، لا تراه أبدًا في الدور، بل ترى الدور فيه. لا تكتشف متى بدأ ومتى انتهى، لكنه يتركك في منتصف المشهد وأنت لا تعرف من تُصدّق أكثر: النص أم إحساسه؟
حتى في لحظات الجنون، تجده هادئًا… وحتى في لحظات الصمت، يصخب بداخلك. يحرّك أعماقك دون جهد، يفتح أبوابًا في داخلك لم تكن تعلم بوجودها. يجعلك تبكي على شخص لم تعرفه، وتضحك مع شخص لم تقابله، فقط لأنه هو مَن يقول الكلام، وهو من يُلقي النظرة.

3. كل مرحلة… لوحة جديدة

ليس سهلًا أن يُجدد الفنان جلده مع كل عقد، لكن يحيى الفخراني فعلها. لا يشبه نفسه في أي مرحلة من حياته. كان يومًا الشاب الحالم، ثم الأب القاسي، ثم المفكر الهادئ، ثم الزاهد الحكيم، ثم المجنون العاقل… يتلوّن كالماء، لكنه لا يفقد صفاءه أبدًا.
كل مرحلة من حياته كانت لوحة جديدة، لكنه لم يترك أبدًا فرشاة الروح، ولا ألوان الصدق.
فحين تطلّ على ملامحه، لا ترى فنانًا يقدّم دورًا، بل ترى إنسانًا يختبر الحياة من جديد، في كل مرة. ولا عجب أن يحبه الجميع، من الطفل إلى العجوز، لأن حضوره يذكّرهم بشيء فقدوه… أو ربما بشخص كانوا يتمنون أن يعرفوه.

4. ليس ممثلًا… بل مرآة وطن

إذا أردت أن تفهم هذا البلد… أن تلمس نبضه، وتسمع صوته، وتشتمّ ترابه… شاهد يحيى الفخراني. لأنه لم يكن يمثل فقط قصص أشخاص، بل كان يُعيد تمثيل وجدان وطن. في كل عمل له، حكاية من عمق الشارع، من بين السطور، من خلف الجدران.
هو ذلك الوجه الذي يُشبه خريطة بلدٍ كاملة: فيها حنين، وألم، وضحك، وخسارة، ونصر… فيها حكايات أجيال كاملة، وآلاف العيون التي شاهدته، وتعلمت منه معنى الصدق، حتى وإن لم تنطق به.

5. الوقت ليس كافيًا لتكريمه… فليُخلد في عمل عظيم

يحيى الفخراني لا يستحق فقط تكريمًا في مهرجان أو ميدالية من وزارة… إنه يستحق تمثالًا من المشاعر، وفيلمًا يُخلّد حياته وهو ما زال حيًا. يجب أن تُدرّس طريقته، ويُكتب عنها في المناهج، لا فقط كأستاذ تمثيل، بل كأستاذ إنسانية. لأن هذا الرجل علّمنا كيف نكون طيبين، وكيف نكون حكماء، وكيف نعيش الألم بابتسامة.
إنها مسؤوليتنا أن نروي قصته للأجيال. مسؤوليتنا أن نُنتج فيلمًا وثائقيًا يُعرض على مدار العام، لا فقط في مناسبة. فيلم يحكي كيف صعد من المجهول، وكيف صنع من نفسه مدرسة وحده. يجب أن نُخلده قبل أن يغيب… لأننا لو انتظرنا، سنندم.

يحيى الفخراني ليس اسمًا يُنسى. ليس نجمًا يظهر ويغيب. إنه حالة وجدانية خالدة. هو الفن حين يتحول إلى حياة. هو الشعور عندما يتجسد. هو المعلم الذي لم يلقِ درسًا واحدًا، لكنه علّمنا أجمل ما في الإنسان… الصدق.

اخبار أخري

جميع الحقوق محفوظة لجريدة الراي المصرية