مسجله بالمجلس برقم 0191160
رئيس مجلس الادارة / وائل عبداللاه الضبع
نائب رئيس مجلس الإدارة / رحاب على
رئيس تحرير تنفيذى/ منى الطراوى
الناشر :انجى باسم عدد المشاهدات : 1224 مشاهدات
منذر ريحانه في "إلى أرض مجهولة"... حين تصدّر العلمُ الذاكرةَ من جديد في كان 2025 ـ جريدة الراي
الكاتب الصحفي عمر ماهر
في الوقت الذي كان العالم فيه يرتدي بدلته الرسمية، ويصفّق للصورة لا للفكرة، ويغرق في سحر الإضاءة أكثر من قسوة الظل، انبثق منذر ريحانه من بين الحشود كشرارة من غضب مكبوت في عيون شعب لم يعرف النوم منذ أكثر من سبعة عقود، إذ تزامن عرضه السابق لفيلم "إلى أرض مجهولة" الذي خاض به غمار مهرجان كان السينمائي 2024، مع اشتعال غير مسبوق في التفاعل الجماهيري خلال مواقع التواصل الاجتماعي خلال دورة المهرجان للعام 2025،
حيث لم يكن الحدث الجديد عرضًا مستجدًا للفيلم، بل كان إعادة إحياء لذاكرة وجع جمعي تحوّل إلى بركان رقمي على محركات البحث، فقد ارتفعت مؤشرات البحث العالمية على اسم "منذر ريحانه" بشكل هستيري مع عرض أفلام جديدة هذه السنة، لكن الجمهور اختار أن يعود إلى هناك، إلى اللقطة التي رفع فيها منذر العلم الفلسطيني،
لا كشعار بل كحياة، وإلى المشهد الذي اغرورقت فيه عيناه دون أن ينطق، لأن اللغة خانت التعبير والسينما اكتفت بأن تصمت أمام فنان اختار أن يتكلم بالنيابة عن الصمت العربي، وليتَ الجمهور اكتفى بالمشاهدة بل اجتاح مواقع التواصل بنيران الذكرى، مشاهد من الفيلم اجتاحت تيك توك، ومقاطع مطولة التهمت خوارزميات إنستغرام، وصرخات خافتة تحوّلت إلى عاصفة تويترية، كل ذلك لمجرد أن اسمه عاد إلى المشهد، لأن هذا النجم لا يمر على الفن مرور الكرام، بل يحفر فيه حفرة مقاومة لا تُردم.
وإن كان فيلم "إلى أرض مجهولة" قد وُلد في مهرجان كان السينمائي بدورته السادسة والسبعين عام 2024، فإن ولادته الحقيقية انفجرت فجأة بعد عام، حين قررت الذاكرة الرقمية أن تُعيد نشر ما تم قمعه في صالات العرض، لتبدأ جولة غير رسمية للفيلم ولكن أشد وقعًا من ألف جولة مهرجانية، وكأن المُشاهدين حول العالم قرروا فجأة أن الوقت قد حان للحديث عن فلسطين ولكن من خلال سينما لا تكتفي بالبكاء، ولا تتغنّى بالبطولة،
بل تغوص في مفاصل الألم اليومي، في صراخ اللاجئ حين يستيقظ ولا يجد وطنًا ولا وطنًا بديلًا، في وجه الفلسطيني الذي يحاول الهرب إلى الحياة ولا يجد منفذًا سوى الموت، في هذا الفيلم لا نرى مشهدًا دراميًا متكلّفًا ولا حوارًا مصنوعًا، بل نُسحب قسرًا إلى داخل شوارع أثينا، إلى وجوه "شاتيلا" و"رضا" وهما يعيشان كل ثانية كما لو أنها الأخيرة، وهنا بالتحديد، تتجلى عبقرية الأداء المذهل لمنذر ريحانه، الذي لم يكن يؤدي دورًا بل كان يتقمّص قضيةً، يذوب في تفاصيلها، يُقاتل بصمته، يختنق بهدوئه، وكأن كل لقطة هي صرخة أم شهيد اختارته ليكون ابنها المتبقي.
وما بين عرض الفيلم الأول في كان 2024، وتحوّله إلى مادة مشتعلة في موسم 2025، يُمكن للقارئ المتابع أن يلمح جيدًا كيف أن التزامن بين موسم المهرجان الحالي وعودة اسم منذر ريحانه إلى التريند لم يكن مجرد صدفة، بل بدا وكأنه رسالة كونية، تذكير عنيف بأن الزمن لن يطوي الحكاية ما دام هناك فنان مستعد أن يُعلن العصيان من داخل القاعات المزينة، فبينما كانت العدسات تلاحق اللمعان الفارغ، كان هو يرفع علمًا ثقيلًا بثقل الصمت العربي،
علمًا لم يُرفع من باب الشعارات الرنانة، بل من أعماق فنان يعترف أن الإبداع بلا موقف هو خيانة ناعمة، وأن الفن إن لم يصفع الواقع فهو ترف لا يستحق أن يُشاهد، ولأن منذر اختار أن يكون الجرح لا الضمادة، والصفعة لا التصفيق، عاد هذا الفيلم ليتصدّر قائمة الاهتمام من دون حملة ترويج ولا مقابلات تلفزيونية، فقط بمقاطع مسرّبة ومشاهد صادقة لم يعد الجمهور بحاجة لترجمتها، لأنّ الألم الفلسطيني مفهوم عالميًا حتى لو أنكرت السياسات
وإذا كنا نعيش اليوم في عالم تتحدد فيه قيمة الفنان بعدد المتابعين وعدسات الببارتزي، فإن منذر ريحانة قرر منذ البداية أن يكتب اسمه بالحبر السري للصدق، أن يُمثّل لا لينال جائزة بل ليقول الحقيقة، وقد قالها حين وقف في قلب فرنسا، مهد الحرية المزعومة، رافعًا علمًا يُرعبهم أكثر من أي سلاح، معلنًا أنه لا يُمثّل وطنًا فقط، بل يُجسد تاريخًا وذاكرةً ودمًا لا يزال يسيل، هذه اللحظة التي دوّخت النقاد وأربكت لجنة المهرجان وعطّلت ماكينة الاحتفال، كانت لحظة ميلاد جديدة لفنان يرفض أن يُرَوّض، ولعلّ تصدّره التريند بعد عام كامل من عرض الفيلم يؤكد على أن الصدق الفني لا يُقاس بزمن، بل بتأثير، ولا يُحتسب بموسم بل بخدش حقيقي في ضمير المتلقي.
إنّ فيلم "إلى أرض مجهولة"، رغم كونه إنتاجًا مشتركًا بين فلسطين والسعودية وقطر والمملكة المتحدة، إلا أنه ينتمي بالكامل إلى العراء، إلى شوارع اللجوء، إلى العيون التي ترفض الاستسلام، وقد صاغه مخرجه مهدي فليفل كأنه مرآة لا تعكس وجه البطل فقط، بل تُظهر دمعة العالم كله حين يعجز عن إنقاذ أبسط إنسان، أما منذر، فقد أعاد تعريف البطولة، لم يحتج لانفجارات أو دماء مزيفة، بل انفجر من الداخل، أدّى بصمته أكثر مما يؤدي غيره بخطابات، وعاد ليُثبت أن أقوى الأعمال لا تموت، بل تُدفن تحت رماد الإنترنت لتعود في لحظة واحدة كأنها لم ترحل أبدًا.
،
رائع، إليك الاستكمال الضخم جدًا، بفقرات طويلة متصلة، جريئة، مبتكرة، وباللغة العربية الفصحى السليمة، تتابع ما بدأناه، وتُسلّط الضوء على كسر منذر ريحانه للقواعد العالمية ورفعه علم فلسطين في مهرجان كان، رغم إدراكه لحجم العواقب الشخصية والمهنية، من أجل قول الحقيقة ودعم غزة، وكشف جرائم الاحتلال للعالم:
ولأن التاريخ لا يُكتَب بالحبر وحده بل يُسَجَّل أحيانًا بارتجافة يد في لحظة تحدٍّ مصيرية، فإنّ منذر ريحانة لم يكن يومًا مجرّد ممثل يصعد خشبة مهرجان عالمي ليخطف الأضواء بكلمات منمقة أو خطوات مدروسة على السجادة الحمراء، بل كان ولا يزال مقاتلًا مسلحًا بالحق، عاريًا من المجاملة، مسكونًا بلهيب غزة، لا يهاب أن يكون وحده في مواجهة آلة إعلامية ضخمة تُجمِّل القبح وتُعقِّم الحقيقة وتُصنّف الإنسانية وفق مصالحها، فحين رفع علم فلسطين في قلب مهرجان كان، لم يكن يُقدِّم عرضًا شكليًا لجمهور متعطش للغرابة، بل كان يُشهرُ موقفًا حقيقيًا، نابعًا من إحساسٍ داخلي بأن الصمت في تلك اللحظة جريمة، وبأنّ كل دقيقة تمرّ دون أن يفضح فنان ما تقوم به إسرائيل في فلسطين هي خيانة للتاريخ والضمير والعدالة، ولو على حساب مستقبله.
لقد كان منذر يعلم تمام العلم أن ما أقدم عليه ليس مجرد لحظة بطولية في نظر المتابعين، بل كارثة متعدّدة الأوجه في ميزان المهرجانات الدولية التي تُغلّف انحيازها السياسي بورق الثقافة والفن، وكان يدرك أن رفع علم فلسطين فوق السجادة الحمراء يعني حرفيًا إحراق كل الجسور التي تربطه بالمنصات العالمية التي تُدار بوعيٍ أو بغير وعي تحت سطوة المال والسياسة، ولكنه مع ذلك، اختار أن يُكمل المشهد حتى نهايته، أن يقف شامخًا والعلم في يده كأنه سلاح، كأنه شاهد قبر، كأنه قذيفة تُقصف بها عقول المتفرجين لا أجساد الأبرياء، ولم يرتجف، ولم يتردد، ولم يبحث عن تبرير، بل نظر إلى عدسات الكاميرات كمن ينظر في عيون العالم أجمع، وقال دون أن يتكلم: هذا علم غزة، هذا علم المخيم، هذا علم الدم الذي يسيل كل يوم، وأرفض أن أخبئه في جيبي لأضمن دورًا جديدًا في فيلم أو تصفيقًا فارغًا في مهرجان آخر.
ما فعله منذر ريحانه ليس أمرًا عابرًا، وليس مجرد تعبير عن التضامن، بل هو إعلان قاطع بأن الفن لا يمكن أن يُعزل عن السياسة حين تتحوّل السياسة إلى آلة قتل ممنهجة، وقد فهم منذر ذلك جيدًا، بل وتحمّله بإصرار، حتى وهو يرى كيف بدأت بعض المنصات تحجبه، وكيف تحوّلت بعض المهرجانات إلى لجان صامتة تتجاهله كما لو أن ما فعله يُخلّ بالأناقة الثقافية الزائفة التي تسعى لإبقاء المأساة الفلسطينية خارج الكادر، لكنه لم يتوقف، لم يراوغ، لم يحاول التبرير أو التراجع، لأنه لم يكن مدفوعًا برغبة في إثارة الجدل، بل بإيمان عميق بأن النجم الحقيقي هو من يضيء الظلام لا من يلمع في الضوء، ومن يقف في الصف الأول من المعركة لا من يقف خلف الستارة يصفق للمذبوحين.
وهنا تتجلّى قمة التمرّد النقيّ: أن تُدرك تمامًا أنك تقف على الحافة، وأن كلمة واحدة قد تسحب من تحتك البساط، ومع ذلك تُطلقها، أن ترفع العلم لا لتُصفق الجماهير بل ليختنق به العالم المنافق، أن تقف وحدك في مهرجان مدهون بالدبلوماسية وتكسر القاعدة، تقلب المعادلة، وتُجبر المشاهدين على الالتفات من الفساتين والبدلات إلى صرخة تحت الركام، صرخة لا تصل عبر قنوات الأخبار بل عبر مشهد سينمائي تفجّر خارج الشاشة.
لقد رفع منذر ريحانه علم فلسطين في مهرجان كان لا لأنّه يريد أن يذكّر بوجودها، بل لأنه يعرف أن وجودها بات يُقاوَم حتى في القاموس، بات يُمحى تدريجيًا من التغطيات الإعلامية، من التمثيل السينمائي، من خرائط الوعي الغربي، وأراد أن يُعيده إلى المشهد، بالقوة إن لزم الأمر، بالعصيان الفني، بالإصرار على أن تكون فلسطين في منتصف الكادر لا في هامشه، وأن تبقى غزة في العنوان لا في الهامش السفلي للخبر، وأن تبقى الذاكرة حيّة لا مؤرشفة في المتاحف.
ولذلك، فإن الأزمة التي سبّبها اسمه في نتائج بحث جوجل خلال مهرجان كان 2025 لم تكن وليدة حملة ترويجية، ولا تغذية اصطناعية من خوارزميات مدفوعة، بل كانت فعلًا نابعًا من موجة جماهيرية عارمة رأت فيه الفارس الأخير الذي لم يَبِع صوته، ولم يؤجّر صورته، ولم يُقايض موقفه بمقعد على طاولة الجوائز، وهذا بالتحديد ما أخرج العالم عن طوره، أن فنانًا عربيًا، يملك موهبة استثنائية، يقرر أن يستخدم شهرته كمنصة مقاومة لا كبساط أحمر للانبطاح، أن يجعل من السينما وسيلة لكشف الجريمة لا مجرد وسيلة للترفيه.
.
فما بين وهج الكاميرات وهدير الجماهير، وقف منذر ريحانة كجبلٍ لا يهتز، لا يُراوغ، لا يُناور، لا يتلوّن بلون المرحلة، بل يشعلها بلون الحقيقة الحارق، يقلب معادلات النجومية ويعيد تعريف "التريند" لا كصرخة فارغة من قلب هوليوود، بل كصفعة من لهيب غزة على وجه العالم المنافق، كقذيفة شرف تُفجّر الصمت العالمي في قلب مدينة الأضواء، ويكفي أن نُدرك أن ما فعله ليس مجرد لحظة مرّت، بل شرارة ستبقى، وستمتد، وستحرق كل محاولات التجميل، وكل محاولات كتم الصوت، وستُعيد كتابة دور الفنان العربي في زمن النكبة المتجددة، لا كراقص على أنقاض الوطن، بل كقائد على جبهة الوعي.
منذر لم يبحث عن جائزة، لم يسعَ إلى تصفيقٍ أو وسام، بل أراد أن يوقظ العالم ولو لدقيقة واحدة، أن يدفعهم ليشاهدوا الدم لا المؤثرات، الركام لا المؤتمرات، الأم التي تحمل ابنها المغطى بالعلم بدلًا من دمية، لا النجمة التي تهمس بكلمة تضامن ثم تغادر في سيارة ليموزين، ومنذر لم يختر توقيته عبثًا، بل اختار لحظة الذروة، لحظة انشغال الأرض كلها بمهرجان كان ليُعلن أن هناك مهرجانًا آخر يحدث في فلسطين كل يوم، مهرجان موت، مهرجان صمود، مهرجان دماء تُنحت على جدران البيوت، ورفض أن يمرّ العرض دون أن يقتحم كادره علمٌ مغتصَب وحقيقة مدفونة.
منذر ريحانه اليوم، ليس مجرد نجمٍ يعلو، بل قضية تمشي، صوتٌ يصرخ في زمن الصمت العربي، ولهبٌ فني يحرق أقنعة الثقافة المستعمرة، ومنذ هذه اللحظة، لم يعد اسمه مجرد اسم في شريط الافتتاح، بل صار صفعة على وجه كل من باع، وجرس إنذارٍ لكل من سكت، وعَلَمًا مرفوعًا فوق كل خشبة مسرح أو سجادة حمراء تُحاول أن تُغلق عينيها عن المجازر. لقد غيّر منذر المعادلة، ودفع الثمن، وسجّل موقفًا لن يُنسى، لأن بعض المشاهد لا تُكتَب بالكاميرا، بل تُحفر في أعماق الشعوب، تمامًا كما حفر اسمه الآن على جدارٍ من نار، لا يُمحى، ولا يُنسى.