أبلة صفية .. كانت تخشى الأنسان

بتاريخ :الجمعة 17 سبتمبر 2021

الناشر :شريف   عدد المشاهدات : 884 مشاهدات

بقلم : علي أحمد الدليل 
قبل أن تتبدل الأحوال ،وتسير الأمور من حال إلى حال،حيث  عاش الجميع أغنياء .أغنياء و ليسوا أثرياء .أغنياء الرضا والغنى  إلى الغني الحميد ، فالجميع عاملا وزارعا ، وراويا وحاصدا ،كبيرا أم صغيرا، كان يجمعهم موعد فيضان النيل وصد طوفان الصيف عند كل  صيف ،يجمع الجميع عزاء الجدود وقت الرحيل، وزفاف الأحفاد  في أفراح القرى الأمن أهلها ،كان الناس مجموعين في ميقات معلوم شدة وفرحا.كان اليوم طويلا والعمل فيه قل أو كثر ،كثيرا .
ومابين حياة الليل وعتمته  ،ومابين حركة النهار وجلبته ،أطلت من بعيد في هدوء رشيد ،من واقع متخيل على خيال واقعي،كانت السيدة التي عاشت عمرا مليئا زاد على السبعين  وشبع ،تخشى شيئا واحدا في حياتها ،هو تقلب الأنسان.فقد عاشت آمنة مطمئنة ،قانعة بحدود شخصية زاهدة من بني البشر مترفعة في زمن الأدب الثمين ،الأدب الذي فضلوه عن العلم ،وهذا ليس تقليلا من شأن العلم بل تعظيما لمقام الأدب والأخلاق ،سافرت بين الحين والحين من بلدتها الريفية الى حاضرة المدينة في زيارة أختها الكبرى والتي تعيش في المدينة المضيئة ،حيث زمن درجات النور .كان النور بحسب كل بيت وحسب المقدور والمعقول،فمن امتلك فانوسا كبيرا يضيء ويتوهج نورا في بيوت عامرة بالحكايا والعلم والخير وقراء القرآن،ومنهم من رضى ببيته شيئا يسيرا من الضوء يحرسه فقط عند الصلاة  اذا أضاء شريطه المغموس في إناء الكيروسين العتيق كشمعة نور .
تسافر القاهرة لتزور أختها التي تزوجت وانتقلت مع زوجها الموظف بوزارة الثقافة والأرشاد القومي وقتها كان مديرا لأحد قصور الثقافة .
أبلة صفية عاشت حياتها هانئة هادئة مطمئنة بدون ان تتزوج طيلة حياتها،وقد كانت في ريعانها هي  الجميلة فاتنة الحسن ،راقية التصرف والملبس والمظهر والحس ، بالأضافة الى الحسب الأصيل والأصل العريق ،رباها والداها هي وأختها وأخوانها على الخلق الفطري الذي ميز أنسان هذا الزمان  ، وعلى عرف صحيح نبع من مهبط العادات في كل قرية في هذا الأوان .سارع لخطبتها والزواج  الكثير من شباب أبناء وجهاء المجتمع في ذلك الوقت  فهذا مثلا  أبن البرلماني  أبن صديق عمها عمدة  البلدة وأحد أعيانها ،والذي جاء عارضا كل ما يقنع أي سيدة على ان توافق الزواج بدون أدنى درجة من درجات التفكير .فقد جاء بسيارته( الأوتوموبيل)  الفارهة، مع تقديم الهدايا والكلام والحكي من النساء عن ابنهم أو (العريس) بإطراء العبارات وحلوها مدحا ووصفا أمامها وعن كيف سيكون مستقبله ومستقبلها معه في عزة وعز ،لكنهالم تهتم ولم تلتفت و فكرت كثيرا وأعطت قرارها بالرفض  سريعا باستفتاء من قلبها .
كانت متعتها متمثلة في قراءة الصحف والتي يحملها يوميا موزع البريد (البوسطجي) بدراجته العتيقة وبضاعته البسيطة حيث قلة المقبلين على شراء الصحف من أخبار أو أهرام،وآخر ساعة، لعدم القراءة..كانت محبة للقراءة و صحفها المفضلة،  التي لم تفارق يديها حتى لحظات الرحيل.كانت تطوف القرية لمساعدة من احتاج المساعدة ؛فتصلح المتخاصمين وتحدث النساء في شئون الدنيا والحياة التي عرفت عنها الكثير .
عاشت في بيتها الحجري،أي المبني بالحجر ذو سقف خشبي وحديقة أشجار ونخيل.لتنتظر زمنا أخر بعد رحيل الوالدين وانصراف الأخوة إلى حياتهم العادية حيث انشغال العمل والأسر والأولاد ،فقد كانت كل حين تسافر ، لزيارة أختها فتسعد سعادة غامرة لرؤية أختها واستعادة الذكريات وتبادلها مع ابناء الأخت الذين تجهش عيونهم بالبكاء عند وداع خالتهم عائدة ألى منزلها في بلدة الريف الرمادي المسالم .
كانت تتذكر؛ كلما جاء أحد لخطبتها ،كيف سأنتقل من بيتي المعطر بأوراق الشجر وما حوله من جيرانها الأقارب وصديقاتها الظراف، الأتي فشلن في أقناعها بالزواج وكانت في كل مرة تردد بأنها لا تخشى الظلام في الليل ولا وتفكر في وحدة البيت بعد انصراف الأخوة والوالدين أو حتى جميع من حولي في أيامي الأتية ،قربت أو قصت،دنت أو تدانت ،
فقد أحببت الظلام وأناجي به ربي ، واعتدت حياة الليل التي تبدأ بأصوات ضفادع مياه الحقول ونقيقها،وصوت صفير حشرات حديقة البيت الكبير ،وإن شعر أحد نحوي بالمسئولية فأنا أبرئه من ذلك ،وحين يحين الصباح فأنا مع أعمالي في البيت صديقة الكتاكيت والقطط وبسطاء نساء البلدة 
إذ كيف أعيش مع رجل داكن أجش الصوت مجرد  ،في توحش وجهالة نعم أنه ثري ولديه من وسائل الحياة  ولكنه ربما لا يعرف القراءة ،ربما كان كذلك ليس بالعطوف فأنا صديقة القطط الوديعة أطعمها طعاما ، وتطعمني حبا وسلاما  ،توفي لي وتمتن ،تؤنسني ساعة أو بعض ساعة ، أقرأ مجلاتي وصحفي وافتح كتابي ...وكأنهم يكتبون لي وحدي ..وكل ما في بيتي ينسجم مع ملامحي وحياتي أثاث بيتي ..وكتبي.. قططتي.حتى صديقاتي الفلاحات يأتون يوميا لي مغطين الرؤوس مرتدين السواد  بوجوههم الجافة ولهجتهم الجافة ولكن يملأهن طيبة القلب ،لشراء ما أحتجته ..يسردن الحكايا التي أعتدت سماعها ، بل واعتدت تصديقهن ،فأنقياء القلب لا يكذبون.
 تتكرر رحلتها للقاهرة ،لترى أختها وتفرح برؤيتها ،بل وأحيانا تذهب مع الأسرة القريبة ألى حفلات فايزة أحمد أو وردة الجزائرية وأم كلثوم ،وتعود بكل ماهو جديد في المزاج والمشاعر وشراء الملابس وبعض الكتب ورواياتها المفضلة .
وبعد حين من قطار العمر السائر سريعا تفقد الكثير ممن حولها حتى جمالها ومزاجها وهوايات طهي الطعام اللذيد وأعداد أنواع الحلوى من فطير العجوى وسد الحنك  .
تعود بعكازها وشالها الأبيض يغطي كتفيها لتفتح الباب لأخيها الذي يأتي ليطمئن على أحوالها .فقد شغلته الحياة بزحامها  عنها ،فهو فقط يتسلى في اوقاته الباقية بعد التقاعد في اللعب مع أحفاده الصغار ومقابلة من تبقى من أصدقائه القدامى في المقهى بعد الصلاة .
ليأتي يوم على الجميع، لا بيع فيه ولا حراك، فقد انتشرت حمى الوباء تخطف من البشر من تشاء،وترهبهم بكف القدر المنتظر ، وتذكر  بريح صرصر حاملة جناح الموت ،فيعتزل الجميع ويتحولوا جلاسا امام تلفزة الأخبار ونشرات الصحف وتصريحات الأطبة .لكن لم تخشى أبلة صفية الوباء ،فلم تعتد الخوف بل الشجاعة واقفة مرحبة بلقاءالموت ،فالمجهول معلوم عندها ،فكما تطعم القطط كل يوم، تطعمهم اليوم مسافرة ، مودعة حياتها بين أقاربها أحفاد الأحفاد،مشيرة و ملوحة بفرحة وسلام وهي تتذوق لحظة الموت السعيد.

اخبار أخري

جميع الحقوق محفوظة لجريدة الراي المصرية