مسجله بالمجلس برقم 0191160
رئيس مجلس الادارة / وائل عبداللاه الضبع
نائب رئيس مجلس الإدارة / رحاب على
رئيس تحرير تنفيذى/ منى الطراوى
الناشر :شريف عدد المشاهدات : 358 مشاهدات
بقلم/ يوحنا عزمي
مع دخول الحرب الأوكرانية شهرها الأول ، اصبح واضحاً
ان تلك الحرب هي مقبرة النظام العالمي الذى كان الغرب
قد تسيده برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية ، وان ثمة
نظام عالمي جديد يولد من رحم الحرب في أوروبا الشرقية ورغم مرور شهر واحد فحسب إلا ان ملامح هذا النظام الجديد متعدد الأقطاب ومتساو الأقطاب بدأت تتشكل بسرعة اكثر مما هو متوقع.
- إستثمار الضعف الأمريكي :
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اختار توقيت التصعيد في أوكرانيا على ضوء ان الولايات المتحدة الأمريكية يحكمها إدارة جو بايدن التي نسخت نفس السياسات الضعيفة لإدارة باراك أوباما ، تلك السياسات التي سمحت لروسيا والصين بالصعود سياسياً واقتصادياً منذ عام 2013 فلم ينتظر بوتين إلى اللحظة التي يقوم فيها من يدير الولايات المتحدة الأمريكية باستبدال تلك الإدارة المؤقتة بإدارة دائمة او شابة ولكن هذا التوقيت كان الأفضل.
إذ بنهاية العام الأول من إدارة بايدن ، بدأ واضحاً ان الشخصيات الثلاث الأولى في ترتيب السلطة في أمريكا
قد اصبحوا أوراق محروقة وغير قادرين على إدارة المشهد السياسي ، سواء الرئيس بايدن ، او نائبه كامالا هاريس او رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوتسي.
في هذا التوقيت الحرج مع ترنح حكومة بوريس جونسون في بريطانيا ، ونهاية عصر انجيلا ميركل في المانيا وتسلم حكومة نيوليبرالية جديدة غير متجانسة للحكم في برلين إضافة إلى قرب موعد الانتخابات الرئاسية في فرنسا، يبدو الغرب في حالة من التشرذم والفوضى على اثرها قرر بوتين استغلال الموقف والبدء في العمليات العسكرية ، رغم ان المشهد في أوكرانيا يوضح بجلاء ان الحرب مصيدة غربية للروس ولكن بوتين قرر ان يقلب السحر على الساحر ويحول المصيدة إلى إمثولة للغرب.
كما ان الغرب بدوره كان يعد حزمة من العقوبات على
روسيا وسوف يفرضها سواء بدأت العمليات العسكرية من عدمه بالإضافة إلى استعداد الغرب لإطلاق نسخة جديدة من جائحة كورونا عبر المعامل البيولوجية الأمريكية في أوكرانيا وكان المستهدف هذه المرة هي روسيا بعد ان تم استهداف الصين في الضربة الأولى من الحرب البيولوجية عام 2020 إضافة إلى حشد تنظيمات النازيين الجدد في أوكرانيا الغربية ووجود مخطط لتصدير الإرهاب النازي الغربي إلى الجمهوريات الروسية.
وهكذا فأن روسيا كانت في واقع الامر تشب ضربة استباقية وحرب وقائية تحمي فيها الامن القومي الروسي من المؤامرة الغربية التي كانت تستعد للانطلاق من أوكرانيا الى الداخل الروسي.
هي حرب وجود بالنسبة لروسيا ، إذ ان الغرب قد اطبق على الحدود الروسية عبر تمدد حلف الناتو، وعبر العقوبات الدولية منذ عام 2014، وعبر تلغيم أوكرانيا ، وقد بنى بوتين روسيا الجديدة منذ ان تسلم الحكم في 31 ديسمبر 1999 من أجل الوصول إلى هذه اللحظة ، لحظة شن الحرب التي سوف ترسم ملامح الدولة الروسية لعقود ، وترسم ملامح النظام العالمي الجديد لسنوات.
- سقوط حلف الناتو :
مع عدم قدرة حلف شمال الأطلسي "حلف الناتو" على ردع روسيا عن قرار الذهاب إلى الحرب ، يعتبر الحلف الأطلسي قد انتهى ، لذا لا عجب ان سارعت بعض الدول الأوروبية وعلى رأسها المانيا في بدء تحديث الجيش الوطني ليدخل العالم سباق تسليح دولي مماثل لما كان يجرى في سنوات الحرب الباردة.
الإتحاد الأوروبي سارع إلى تشكيل قوة مشتركة ولكنها
فكرة ضعيفة ودفاعية ، فالمستقبل بيد الجيوش الوطنية التي تدافع عن بلادها وليس الجيوش الإقليمية التي تدافع عن مصالح قارية.
ويعتبر حلف الناتو من اهم أركان نظام العولمة الأمريكية ونموذج الدولة النيوليبرالية وهو النموذج الذى حاول النظام العالمي طرحه لإلغاء فكرة ونموذج الدولة الوطنية وهدم فكرة الانتماء بوجه عام والانتماء الوطني على وجه التحديد وكذلك فكرة هدم الجيوش الوطنية والقومية، والاعتماد على الجيوش القارية والدولية وقوات متعددة الجنسيات وقوات حفظ السلام والمرتزقة إضافة إلى الشركات العسكرية الخاصة.
- تفكيك هيمنة الدولار :
يعتبر الدولار الأمريكي هو العملة الدولية الأولى حيث يتم قياس اقتصاديات الدول بالاحتياطي الذى تملكه بالعملة الأمريكية ، او ما تملكه من سندات بالعملة الأمريكية في البنك الفيدرالي الأمريكي، كما انها العملة الأولى في التبادل التجاري وتسعير السلع الإستراتيجية في العالم اجمع.
وأصبح الدولار الأمريكي من اهم أدوات هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم ، وادى الاستعمال الموسع للدولار الأمريكي دولياً إلى قيام الفيدرالي الأمريكي بطباعة الدولار بارقام تريليونية بدون غطاء حقيقي، ما أدى إلى اكبر فقاعة مصرفية في التاريخ ، تنتظر اللحظة التي تنفجر فيها وينهار الدولار الأمريكي والبنك الفيدرالي الأمريكي ومن ثم تفكيك الإتحاد الفيدرالي بين الولايات الأمريكية.
وكانت الضربة الأولى في مضمار اسقاط الدولار الأمريكي
هو القرار الذى جرى بين روسيا والصين عقب بدء الحرب
بأن تقوم روسيا ببيع الغاز الروسي إلى الصين باليوان الصيني، العملة الرسمية للدولة الصينية ، علماً بأن الصين
هي اكبر مستورد للغاز في العالم.
وفى 23 مارس 2022 دق بوتين مسمار ثان في نعش الدولار ، حينما اعلن ان موسكو سوف تبيع الغاز الروسي بالروبل الروسي إلى الدول التي صنفت على اللائحة الروسية
الدول غير الصديقة لروسيا ، وهى الدول التي اقرت عقوبات الغرب على روسيا ، وتشمل كافة دول الإتحاد الأوروبي إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا واليابان وكندا والنرويج وسنغافورة وكوريا الجنوبية وسويسرا وأوكرانيا .
- حرب البترودولار :
منذ اربعينات القرن العشرين ، أصبح الدولار هو العملة الرسمية لتسعير برميل النفط بوجه عام ونفط الخليج العربي على وجه التحديد ، وذلك بناء على اتفاق جرى بين الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفيلت والعاهل السعودي عبد العزيز آل سعود مؤسس المملكة العربية السعودية ، اثناء لقائهم بالسويس المصرية.
وعلى هذا الأساس وطيلة ثمانية عقود ظل الدولار هو العملة الحصرية التي تقوم السعودية ودول الخليج العربي بتداولها في بيع النفط ومواد الطاقة ، ما صنع اسطورة حقيقة في مجال الاقتصاد والسياسة سميت بـ "البترودولار" او تزاوج مصلحة الدولار بمصالح النفط ، ولا يوجد حول العالم اجمع برميل نفط واحد يذكر سعره بأي عملة باستثناء الدولار ..
ولا يوجد نشرة واحدة اقتصادية حول العالم يمكن ان يذكر بها سعر برميل النفط باليورو او الجنيه الإسترليني او الين الياباني.
ومنذ مجيء إدارة جورج بوش الأبن الأمريكية ، محملة بمشروع القرن الأمريكي ومن اهم بنوده مشروع الشرق الأوسط الكبير ، بدأت الاستراتيجية الأمريكية لخلخلة الاستقرار داخل المملكة العربية السعودية بغية تقسيمها
إلى خمس دويلات ، ولكن الملك عبد الله بن عبد العزيز
آل سعود استطاع الوفاق مع آل بوش الأسرة الحاكمة في أمريكا وقتذاك وتلاقت مصالح النفط في الرياض مع مصالح اباطرة النفط في تكساس.
ولكن الموقف تغير مع مجيء إدارة باراك أوباما وعاشت العلاقات السعودية الأمريكية ثمانية سنوات من التدهور ورغم ان دونالد ترامب قد توعد الرياض بالعقوبات والسياسات الخشنة ، ولكن اتضح لاحقاً ان هذا هو أسلوب تفاوض ترامب ، وما ان دخل البيت الأبيض حتى استطاع التوصل لاتفاقيات اقتصادية مع الرياض انهت الخلافات الأمريكية السعودية التي جرت في بعض سنوات بوش الأبن وكافة سنوات أوباما الثمانية ، وان كانت الرياض قد رفضت مطلب لترامب بالذهاب إلى الاتفاقيات الإبراهيمية عشية انتخابات الرئاسة نوفمبر 2020.
ومع مجيء بايدن ، او الولاية الثالثة لباراك أوباما عادت الخلافات من جديد بين واشنطن والرياض رغم الود الظاهر في العلاقات بين البلدين ، وسبب الخلاف بين الرياض وإدارتي أوباما وبايدن يتلخص في رؤية الرئيسين إلى استخدام إيران اقليمياً في أدوار أمريكية.
وإطلاق يد إيران في العراق واليمن بل وليبيا إذا ما لزم الأمر وهو امر ترفضه السعودية ليس خوفاً عن الأمن السعودي ولكن ايضاً حرصاً على الأمن القومي العربي ، وكانت النتيجة ان أوباما ثم بايدن أعطوا الضوء الأخضر لإيران من اجل استهداف السعودية عبر التنظيمات الإيرانية في اليمن والعراق ، وهى التنظيمات التي تمطر الأراضي السعودية بالصواريخ والطائرات المسيرة دون هوادة.
اعتبرت السعودية ان الضوء الأخضر الأمريكي لإيران هو حرب بالوكالة، وان أمريكا عاجزة عن التصدي لإيران وغير راغبة في ذلك ، وعلى ضوء ما سبق بدأت السعودية تقلص دورها في الرؤي الأمريكية في العديد من الملفات ، واخرها ملف الحرب الأوكرانية.
واتخذت دولة الإمارات العربية المتحدة الموقف ذاته على ضوء وصول الصواريخ والطائرات المسيرة الإيرانية من اليمن والعراق إلى أبو ظبي اكثر من مرة.
في هذا السياق كانت أمريكا تطمع في قيام الخليج العربي خاصة السعودية والإمارات في زيادة انتاج النفط من اجل تعويض الحظر الأمريكي على استيراد النفط الروسي، إذ ان الولايات المتحدة الأمريكية تستورد 20 % من احتياجاتها النفطية من روسيا.
وكانت المفاجأة أمام بايدن ان السعودية والإمارات رفضتا المطلب الأمريكي ، بل ورفض الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي والشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي تلقي مكالمة هاتفية من الرئيس الأمريكي للاستماع إلى التوسلات الأمريكية في هذا الملف.
حجة الإمارات والسعودية القانونية ان كلا الدولتين عضواً في منظمة الأوبك التي تحدد حصص إنتاج النفط وبالتالي
لا يمكن الخروج عن هذا الجدول.
تقييد إنتاج النفط اليومي على يد السعودية والإمارات أمام التوسل الأمريكي والأوروبي ، كان ضربة اشبه بضربة قطع النفط العربي عن الغرب ابان انتصار 6 أكتوبر 1973، وكأن الأبناء يكررون انجاز الآباء ، الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود والشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ، وقد سارع الغرب للانتقام من السعودية بإعطاء الضوء الأخضر للتنظيم الحوثي والتنظيمات الموالية لإيران في العراق بتكثيف ضرب المنشآت النفطية السعودية.
السعودية ذهبت إلى مدى ابعد من ذلك حيث بدأت المفاوضات بين الرياض وبكين، لمناقشة مدى فاعلية
فكرة ان تدفع الصين مشترياتها من النفط السعودي
بالعملة الصينية "اليوان"، وهو القرار الذى سوف يفكك
فكرة البترودولار نهائياً.
- هندسة العقوبات الغربية :
ان العقوبات الدولية على روسيا ، سواء الأمريكية او الغربية قد تمت صياغتها في سلسلة من الاجتماعات عقدت بداية من صيف 2021 وحتى الأسبوع الأول من فبراير 2022.
ورغم ان القرارات كان منوط بها معاقبة روسيا، ولكن الأصل كان تنفيذ سلسلة من التفاعلات الاقتصادية الغرض منها رفع سعر الفائدة في البنك الفيدرالي الأمريكي ، إذ ان المجموعة الاقتصادية الدولية التي اقرضت أمريكا 20 تريليون دولار هي اجمالي الديون الأمريكية ، بحاجة إلى حالة من التضخم العالمي سوف تسفر عن رفع سعر الفائدة عبر البنك الفيدرالي الأمريكي.
رفع الفائدة 0.25 % في مارس 2022 للمرة الأولى منذ
عام 2018 لتصبح 0.5 %، الـ 0.25 % تعني ان المجموعات التي اقرضت أمريكا 20 تريليون دولار ما هي إلا مجرد ورق بنكنوت في ظل عدم وجود غطاء حقيقي للدولار ، سوف يربحون سنوياً 400 مليار دولار يمكن تحويلهم إلى الذهب
او أي عملة أخرى لديها غطاء نقدي حقيقي بدلاً من اسطورة الدولار المزيفة.
المخطط الأمريكي هو استمرار أزمة التضخم العالمي بما يجبر البنك الفيدرالي الأمريكي على رفع الفائدة ست مرات لتصل إلى 3.5 %.
مقابل هذا المكسب 400 مليار دولار المرشح للزيادة متى زادت الفائدة في البنك الفيدرالي الأمريكي، سوف تقوم هذه المجموعة الاقتصادية بدعم الحكومات الغربية الحالية في صناديق الاقتراع المقبلة ، كما ان تلك الشركات سوف تقوم بملء الفراغ الذى سوف يحدث حينما يتم معاقبة روسيا ومنعها من تصدير النفط والغاز والفحم والسيارات وباقي منتجات التجارة الروسية إلى خارج المجال الحيوي الروسي.
هكذا تحولت العقوبات الغربية على روسيا إلى بيزنس دولي هدفه اقصاء روسيا من النظام الاقتصادي العالمي وملء هذا الفراغ لشركات بعينها ، مستفيدة من أزمة التضخم العالمي التي سوف يتم صناعتها على ضوء تلك العقوبات.
روسيا كان لديها خطة لمواجهة هذه اللعبة، والأهم من ذلك هو تفهم دول العالم الحر لخطورة الانخراط في العقوبات الغربية على روسيا ، لذا وقفت مصر والصين والهند موقف موحد رافض لهذه العقوبات ، وهو ما أكده سيرجي لافروف وزير خارجية روسيا في مؤتمر صحفي بمدينة انطاليا التركية في 10 مارس 2022.
- تعدد الأقطاب :
يتضح من المواقف السابقة، ان عصر القطب الواحد قد انتهي وان الفترة ما بين عامي 2013 و2022 كانت مرحلة تمهيد لظهور الأقطاب الجديدة ، إذ ان روسيا قد صعدت إلى مسرح الأحداث وكذلك الصين.
إقليمياً اليابان والهند وكوريا الجنوبية في الشرق الأقصى بينما يظهر في الشرق الأوسط والأدنى ودوائر المتوسط والبحر الأحمر وصولاً إلى أوروبا الشرقية والوسطي دائرة عربية مؤلفة من مصر والسعودية والإمارات.
التيار القومي سوف يصعد في أمريكا وأوروبا وألمانيا سوف تصبح المنافس القوي للمعسكر الانجلوساكسوني مرة أخرى ولكن ليس في عصر المستشار الاشتراكي اولاف شولتس وائتلافه الثلاثي النيوليبرالي الحاكم ، وكذلك فرنسا سواء بقيت الماكرونية او جاءت نسخة أخرى من القومية الفرنسية.
بريطانيا استغلت الأزمة خير استغلال ، وملأت الفراغ الموجود في أوروبا لتصبح ذات صوت قوي في السماء الأوروبية لتعوض بريطانيا خروجها من الإتحاد الأوروبي وتثبت ان هذا الخروج كان انفصالاً عن الإتحاد القاري ولكن ليس عن القارة او السياسة الأوروبية ، بل كان إعادة هيكلة لدور بريطانيا بعد ان تضخم دور المانيا في الاتحاد الأوروبي.
ولا تزال الحرب مستمرة ، وحسابات الربح والخسارة تتغير وتتبدل على مدار اليوم.