الدكروري يكتب عن تأثيرات العصر العباسي " جزء 2"

بتاريخ :السبت 11 يونيو 2022

الناشر :Heba   عدد المشاهدات : 150 مشاهدات

الدكروري يكتب عن تأثيرات العصر العباسي " جزء 2"
بقلم / محمـــد الدكـــروري

وقد جاء في كتاب المنتجب العاني، لمؤلفه أسعد علي أن الخلفاء كانوا يحتفلون بالأعياد المسيحية كعيد الميلاد، وأحد الشعانين، حتى في قصر الخليفة، فيضع الخليفة وحاشيته أكللة من زيتون، ويرتدون الملابس الفاخرة، وقد تم بناء في بغداد كاتدرائيتان مع تشييد المدينة، ولعل أبرز الدلائل والشواهد على التعايش الديني والعيش المشترك، أشعار أبي زيد الطائي والأخطل التغلبي، كذلك ما رواه ابن فضل العمري بكتابه مسالك الأبصار، وما جاء في كتاب مسالك الممالك، من وصف للحياة بين المسلمين والمسيحيين في البلاد التي زارها، وقد نقل في كتابه ذاته أنه كان في الرها العباسية وجوارها ثلاثمائة دير، كذلك فإن كتابات المؤرخين السريان، كالتلمحري وميخائيل الكبير وغيرهم تدل على ذلك، وكذلك مراسلات طيموثاوس الأول، بطريرك كنيسة المشرق، الذي جمعته صداقة مع أبي جعفر المنصور، حتى لقبه أبو النصارى، ويذكر أيضا عددا من الخلفاء والأمراء والولاة. 

كانوا يقيمون خلال تنقلاتهم في الأديرة، وقد سجلت أديرة الرصافة ودير زكا ودير القائم قرب البوكمال زيارات لخلفاء عباسيين، كما أن العباسيين لم يجبروا القبائل المسيحية العربية كتغلب ونمر وطيء وبني شيبان وقبيلة إياد على الإسلام، وإنما الأسلمة جاءت في القرون اللاحقة التي شهدت اضطهاد الأقليات، خصوصا القرن العاشر، وكما كان للمسيحيين، خاصة السريان من يعاقبة ونساطرة، دور مهم في الترجمة والعلوم والطب، ولقد ترجم المسيحيون من اليونانية والسريانية والفارسية، واستفادوا من المدارس التي ازدهرت فيها العلوم قبل قيام الدولة العربية، خصوصا مدارس مدن الرها ونصيبين وجنديسابور وإنطاكية والإسكندرية المسيحية، والتي خرج منها فلاسفة وأطباء، وعلماء ومشرّعون، ومؤرخون وفلكيون، كما حوت مستشفى، ومختبرا، ودار ترجمة، ومكتبة ومرصدا، وقد وصف الجاحظ وضع المسيحيين خلال العصر العباسي. 

وقال إن النصارى متكلمون وأطباء ومنجمون، وعندهم عقلاء وفلاسفة وحكماء وإن منهم كتاب السلاطين، وفرّاشي الملوك، وأطباء الأشراف، والعطارين والصيارفة وإنهم اتخذوا البراذين والخيل، واتخذوا الشاكرية والخدم والمستخدمين، وامتنع كثير من كبرائهم عن عطاء الجزية، أما اليهود فعوملوا كالمسيحيين ارتقى بعضهم مناصب مرموقة في الدولة، وأصبح حاخام بغداد رأسا للطائفة اليهودية في العالم، بسبب التسامح والرعاية، وبنى الخليفة المعتضد لليهود مدرسة تلمودية في بغداد، وفي عهد الخليفة المستنجد عام ألف ومائة وسبعين ميلادي، قدر عدد اليهود في بغداد وحدها بأربعين ألفا اشتهروا خلاله بالنشاطات الاقتصادية من تجارة وصيرفة على وجه الخصوص، وكذلك حال المندائيين الذين اعتبروا في الفقه من أهل الكتاب، وانتشروا في الأحواز وجنوب العراق، وكانت مدينتا واسط وميسان عواصم لهم، وقد تم نقل وجود أربعمائة مشكينا في ميسان أوائل العصر العباسي.

واشتهر منهم عدد من القضاة ورجال العلم والأدب، ولم يقتصر الأمر على ذلك فإن حران وجوارها كانت مركزا وثنيا كبيرا تعبد فيها الكواكب والأفلاك، وقد تسامح الخلفاء الأمويون، ومن بعدهم العباسيون، مع وثنية أهل حران إلى عهد المأمون إذ إن المأمون مر بحران عام ثماني مائة وثلاثون ميلادي، فاغتاظ من الوثنية، وطلب من أهلها التحول إلى الإسلام، أو إحدى الديانات التي يعترف الإسلام بها، فدخل الحرانيون بالصابئة، غير أنهم ظلوا وثنيين، ومن هنا يمكن التمييز بين طائفتي صابئة، الصابئة المندائيون في جنوب العراق، والصابئة الحرانيون الوثنيون، ويمكن القول بأن الحرانيين لم يقوموا سوى بتغيير شكلي وقد ظلت حران على هذه الحال إلى أن دمرها تيمورلنك في القرن الرابع عشر، ويذكر أبو الفداء أنها قد تحولت إلى كومة خراب، وانقرض دين معتنقيها بعد غزوه هذا وعلى الرغم من هذا يجب الإشارة إلى أن أتباع الأديان غير الإسلامية. 

حتى خلال هذه المرحلة، لم تكن مساواتهم بسائر الرعايا من المسلمين كاملة، فيما يخص الزواج أو الميراث أو إنشاء دور العبادة في بعض المراحل، والقسم الأكبر من هذا التعايش تبخر خلال عصور الانحطاط، فهدمت الكنائس، ومنع أبناء هذه الأديان من ركوب الخيل ومزاولة بعض الأنشطة التجارية والاقتصادية، أو الإقامة في دور مرتفعة، كما أنهم قد عوملوا كرعايا من الدرجة الثانية، وأخذ السلاطين والولاة يستبدون بهم، وكان البدو يقتحمون الكنائس والأديرة لسلبها على ما يذكر المؤرخ ابن بطريق والمسعودي وغيرهما وكانت إحدى نتائج ذلك، هو هجرة المسيحيين الذين رفضوا اعتناق الإسلام من المدن نحو الجبال، وهكذا أخذ الموارنة بالنزوح من وادي العاصي باتجاه جبال لبنان العصية، وكذلك سجلت حركات هجرة مسيحية نحو طور عابدين ونحو ماردين وغيرهما من الأماكن المنعزلة، وعموما لا يمكن أن يفهم أن الاضطهادات كانت مستمرة، إذ كانت تخف وتيرتها بين الفينة والأخرى.

اخبار أخري

جميع الحقوق محفوظة لجريدة الراي المصرية