مسجله بالمجلس برقم 0191160
رئيس مجلس الادارة / وائل عبداللاه الضبع
نائب رئيس مجلس الإدارة د / اميره بلال
رئيس تحرير تنفيذى/ منى الطراوى
الناشر :ولاءهنداوي عدد المشاهدات : 294 مشاهدات
ديون أمريكا... فتيل الأزمة القادمة في جيوب العالم ـ جريدة الراي.
بقلم د/ احمد عبده
في هذه السلسلة من المقالات، نحاول أن نقرأ الاقتصاد العالمي بعينٍ سياسيةٍ لا تفصل الأرقام عن الإنسان،
ونبدأ من قلب المشهد المالي الأعقد في العصر الحديث: الديون الأمريكية، التي تحولت من مسألة داخلية إلى قضية تمسّ كل بيت في هذا العالم المترابط.
ليس الدين الأمريكي رقمًا جامدًا في جداول وزارة الخزانة، بل كائن حيّ يتنفس بثقة العالم في الدولار.
فحتى أكتوبر 2025، تجاوز الدين الفيدرالي الأمريكي 37.8 تريليون دولار وفق بيانات الخزانة الأمريكية (U.S. Treasury) واللجنة الاقتصادية المشتركة للكونغرس (JEC).
إنها أرقام تثير الذهول، لكنها في واشنطن لا تثير الفزع، لأن الولايات المتحدة تملك الامتياز الأخطر في التاريخ المالي:
أن تستدين بعملتها هي، لا بعملة غيرها، فتطبع الدولار كما لو كانت تطبع الأمان ذاته، فيتسابق العالم لشرائه.
وهنا يبدأ الوجه الآخر للحكاية.
فالحجم وحده لا يحدد مصير الأمم، بل قدرتها على إدارة هذا الحجم.
فأمريكا دفعت خلال عام 2025 أكثر من 970 مليار دولار كفوائد على ديونها، بحسب تقديرات مؤسسة بيترسون للسياسات المالية (PGPF)،
وهي تكلفة تقارب ما تنفقه بعض القارات مجتمعة على التعليم والصحة.
بل وتتوقع مكتب الموازنة بالكونغرس (CBO) أن تبلغ الفوائد الصافية خلال العقد القادم نحو 13.8 تريليون دولار — رقم يكفي لإعادة بناء البنية التحتية لعشرات الدول النامية.
لكن الخطر لا يقف عند واشنطن وحدها، فكل زيادة في أسعار الفائدة التي يقرّرها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي (Federal Reserve)
تنعكس كزلزال على الأسواق العالمية، ترفع كلفة الاقتراض في القاهرة ونيودلهي وبيونس آيرس،
وكأن العالم يدفع ثمن طباعة الدولار مرتين: مرة حين يشتريه، ومرة حين يلاحق أثره في ديونه المحلية.
إن "ثقة الدولار" التي جعلت أمريكا قادرة على الاستدانة بلا سقف، هي نفسها التي تجعل الاقتصاد العالمي على الحافة.
فالمال الذي كان يومًا وسيلة للتنمية، صار سلاحًا ناعمًا في يد من يملك ماكينة الطباعة.
والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم:
إلى متى يمكن للعالم أن يواصل الإيمان بعملة تعيش على الدين؟
قد لا ينهار النظام غدًا، لكن الشرارة التي تشتعل في واشنطن قد تمتد يومًا لتضيء ظلام أزمة جديدة،
وحينها سيدرك الجميع أن فتيل الانفجار لم يكن في الأسواق النامية، بل في قلب العالم المتخم بالدولارات.
وفي النهاية، تظل الحقيقة واحدة:
أن الاقتصاد لا يُقاس بما تطبعه البنوك، بل بما تحمله الجيوب من كرامة وقدرة على الحياة.