اللعبة الأخيرة... الذهب يُغنّي على أطلال الدولار/جريده الراي

بتاريخ :السبت 01 نوفمبر 2025

الناشر :سميه محمد   عدد المشاهدات : 226 مشاهدات


بقلم د/احمد عبده
لم تكن أزمة الديون الأمريكية مجرّد خلل في الأرقام أو فجوة في الموازنات، بل كانت إعلانًا عن بداية التحوّل في مركز الثقل المالي العالمي. فالإمبراطورية التي طالما حكمت العالم بالورق الأخضر، بدأت تكتشف أن الذهب — الذي تخلّت عنه — عاد ليطرق بابها من جديد، ولكن هذه المرة بصفته خصمًا لا حليفًا.

منذ أن فكّ الرئيس نيكسون ارتباط الدولار بالذهب عام 1971، تحوّل النظام المالي الأمريكي إلى أكبر مسرح للوهم الاقتصادي المنظَّم، حيث تُطبع النقود دون غطاء حقيقي، وتُموَّل الديون بدَيْنٍ جديد، في دوّامةٍ تُشبه الدوران حول فراغ.
لكن حين بدأت الاقتصادات الكبرى في آسيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية تُعيد بناء احتياطياتها من الذهب، أدركت واشنطن أن اللعبة تقترب من نهايتها.

فبحسب بيانات مجلس الذهب العالمي (World Gold Council) والاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، تمتلك الولايات المتحدة نحو 8,133 طنًا من الذهب — وهي الكمية الأكبر في العالم — تعادل قيمتها في أكتوبر 2025 نحو 580 مليار دولار فقط، أي أقل من 1.5% من إجمالي ديونها الفيدرالية التي تجاوزت 37.8 تريليون دولار.
إنها مفارقة مذهلة: أكبر قوة اقتصادية في التاريخ، تملك من الذهب ما يغطي بالكاد أسبوعًا واحدًا من فوائد ديونها السنوية.

ورغم هذه الهوّة الصارخة، تتحرك واشنطن في صمتٍ محسوب لإعادة ترميم ثقة الدولار، لا عن طريق العودة إلى قاعدة الذهب، بل عبر لعبة أكثر تعقيدًا:
أن تساوي الذهب بديونها، وتجعل من “دهون الدولار” غطاءً نفسيًا واقتصاديًا لورقٍ فقد بريقه.
وكأنها تقول للعالم: “ديوننا هي ثروتنا، وهذا الورق هو ذهبنا”، في محاولةٍ لتمديد زمن السيطرة على الأسواق ولو على حساب الحقيقة المالية.

تتحرك واشنطن عبر ما يمكن تسميته بـ خطة الهروب من الديون، وهي مزيج من ثلاث خطوات متشابكة:
رفع سعر الفائدة لتقوية الدولار مؤقتًا،
وتجميد جزء من الإنفاق الحكومي تحت غطاء التقشف،
ثم الضغط على المؤسسات الدولية — كصندوق النقد والبنك الدولي — لتدوير الأزمات بما يخدم إعادة ضخّ رؤوس الأموال نحو الخزانة الأمريكية.
إنها ليست خطة إنقاذ، بل إعادة توزيع للخسائر على العالم.

لكن الذهب لا يكذب.
فكلما ارتفع منسوب الشك في الدولار، ارتفع سعر الأوقية — التي تجاوزت 2400 دولار في منتصف 2025 — وهي أعلى مستوياتها التاريخية، مدفوعةً بموجة شراء غير مسبوقة من البنوك المركزية في الشرق والجنوب.
إنها رسالة واضحة: العالم لم يعد يثق في الورق الأمريكي كما كان.

إنها عودة الصراع بين الحقيقة والوهم، بين المعدن الذي يُختزن في الخزائن، والورق الذي يُطبع في البنوك.
ومهما حاولت أمريكا أن تُعيد تعريف اللعبة، فإنها تعرف في أعماقها أن من يملك الذهب في النهاية... هو من يكتب القواعد.

---

قد تواصل واشنطن هروبها على جسرٍ من الديون، وقد تنجح في تأجيل الانهيار، لكنها لن تغيّر الحقيقة الأبدية:
أن العالم بدأ يستيقظ من وهم الورق، ويبحث عن القيمة في جوهرها لا في توقيعها.
وحين يعود الذهب ليزن الكلام، سيكتشف الجميع أن الثقل الحقيقي ليس في الخزانة الفيدرالية... بل في الضمير الإنساني الذي يرفض أن تُدار ثرواته بلعبة الأكاذيب.

وهكذا تُختتم السلسلة،
ويبقى السؤال معلّقًا بين السطور:
هل سيسمح العالم أن يظل رهينةً لدهون الدولار، أم يستعيد توازنه على ميزان الذهب؟
وساعتها فقط، سيُكتب الفصل الأخير من قصة الإمبراطورية التي باعت الذهب... واشترت الوهم.

اخبار أخري

جميع الحقوق محفوظة لجريدة الراي المصرية