مسجله بالمجلس برقم 0191160
رئيس مجلس الادارة / وائل عبداللاه الضبع
نائب رئيس مجلس الإدارة د / اميره بلال
رئيس تحرير تنفيذى/ منى الطراوى
الناشر :ولاءهنداوي عدد المشاهدات : 302 مشاهدات
العالم يعيد صياغة نفسه... ومصر تقرأ القادم ـ جريدة الراي
بقلم د. أحمد عبده
كأن العالم الذي صمت طويلًا بدأ الآن يتنفس ببطء…
الضجيج الذي غاب يعود في شكل همسات سياسية حذرة، لا قرارات كبرى بعد، ولكن كل إشارة في المشهد تقول إن التحول بدأ فعلاً.
لقاء الرئيس الأمريكي بنظيره الصيني لم يكن اجتماعًا بروتوكوليًا، بل رسالة للعالم بأن لحظة الصدام بين القوتين الكبريين لا تزال مؤجلة. كل طرف أدرك أن الاقتصاد المتشابك أقوى من شهوة الهيمنة، وأن العالم لم يعد يحتمل حربًا باردة جديدة. في لغة السياسة، كان اللقاء إعلانًا عن مرحلة توازن اضطراري، تضع خطوطًا حمراء أمام مغامرات التصعيد.
وفي الشرق الأوسط، تلوح هدنة خجولة في فلسطين، كأنها محاولة لالتقاط الأنفاس في صراعٍ لم يعد يشبه نفسه. الدم ما زال طريًا، والجراح مفتوحة، لكن الجميع يعرف أن استمرار النار لم يعد ممكنًا بلا ثمن سياسي واقتصادي باهظ. هذه الهدنة، وإن بدت مؤقتة، إلا أنها تحمل في طياتها اعترافًا بأن المنطقة تبحث عن معادلة جديدة، أكثر واقعية، وأقل عنفًا، وربما أكثر وعيًا.
أما الحرب الروسية الأوكرانية، فقد دخلت بدورها مرحلة الهدوء المرهق. البنادق لم تصمت تمامًا، لكنها فقدت حماستها الأولى. العالم اكتشف أن الحرب التي أُريد لها أن تعيد رسم حدود أوروبا، أعادت بدلًا منها رسم حدود القدرة على الاحتمال. الاقتصاد الغربي يئن، وروسيا تحسب خطواتها، بينما الشعوب تدفع الثمن في صمت طويل.
هذه الإشارات مجتمعة لا تقول إن السلام قريب، لكنها تقول إن التغيير حتمي.
فالعالم لم يعد يتكلم بلغة واحدة، بل بتعددٍ في الخطاب واختلافٍ في المفاهيم.
كل قوة تصوغ خطابها الخاص عن الأمن والسلام والاقتصاد، بما يخدم موقعها في خريطة التحول القادمة.
أمريكا تتحدث عن “النظام القائم على القواعد”، والصين ترد بـ “التنمية المشتركة”، وروسيا ترى أن “العدالة الدولية” لا تتحقق إلا بتوازن القوى.
تعدد الأصوات لا يعني الفوضى، بل يعكس مرحلة انتقالية تتصارع فيها الرؤى قبل أن يُولد النظام الجديد.
وفي قلب هذا المشهد، تسعى الدول المتوسطة — وفي مقدمتها مصر — إلى أن تمتلك خطابها المستقل، لا أن تكون صدى لأي طرف.
فهي تدرك أن من يملك خطابه يملك موقعه،
وأن من يكتفي بالتعليق على الآخرين سيظل خارج دائرة الفعل والتأثير.
وفي الوقت الذي تتناوب فيه القوى الكبرى على إدارة هذا التحول، تمضي مصر في طريقها بثباتٍ هادئ، تقرأ ما وراء العناوين، وتُعيد بناء قوتها الذاتية لتكون شريكًا لا تابعًا، وصوتًا وطنيًا في عالم تتزاحم فيه اللغات والمصالح.
إن ما نراه اليوم ليس سوى بدايات خافتة لما سيصبح غدًا مشهدًا مختلفًا للعالم كله.
التحول لا يحدث في لحظة، بل يتشكل كما تتشكل الفجرات البطيئة في الأفق: تبدأ بخيط ضوء، ثم يمتد الضوء فيغمر الكون.
والعالم الآن عند ذلك الخيط الأول من الفجر...
حيث تُكتب الملامح الأولى لزمن جديد،
وحيث تبقى مصر — كما كانت دائمًا — تقرأ النور قبل أن يظهر،
وتتهيأ لتكون في قلب التحول لا على هامشه.