من دمشق إلى باماكو... حين تتكرر الفوضى بنفس اللغة ـ جريدة الراي.

بتاريخ :الخميس 06 نوفمبر 2025

الناشر :ولاءهنداوي   عدد المشاهدات : 121 مشاهدات

من دمشق إلى باماكو... حين تتكرر الفوضى بنفس اللغة ـ جريدة الراي.

بقلم د. أحمد عبده 

 

من دمشق إلى باماكو، تتشابه المآسي وإن اختلفت الجغرافيا، ويتحد الألم وإن تبدّل اللسان. فحين تفقد الدولة صوتها، تُفتح أبواب المدن لزوارٍ لا يعرفون الرحمة، وحين تُفرّغ الأوطان من مشروعها الوطني، لا يعود الفرق كبيرًا بين أن تكون في الشرق العربي أو في قلب الصحراء الإفريقية.

 

في سوريا، بدأ كل شيء من شرارة احتجاج، ثم تحوّل المطلب إلى حرب، والحلم إلى رماد. وفي مالي، بدأ الصدع من داخل الجدار ذاته؛ انقسام الجيش، تآكل الثقة، وغياب الرؤية. وبينما كانت الجماعات المسلحة تتمدد في القرى، كان العالم يراقب — لا لينقذ، بل ليقتسم الغنيمة على مهل.

 

روسيا دخلت سوريا باسم "محاربة الإرهاب"، فصارت جزءًا من معادلة الحكم لا من معادلة الحل. واليوم، تدخل مالي بنفس الذريعة، لتعيد إنتاج مشهدٍ مألوفٍ من التدخل المبطّن، حيث يتحول السلاح الأجنبي إلى ضامنٍ للسلطة، لا للسيادة.

 

في الحالتين، الإرهاب ليس سوى ورقةٍ في يد من يعرف كيف يُشعل النار دون أن يحترق. يُغذّى الصراع من الخارج، ويُدار الخوف من الداخل، وتبقى الشعوب وحدها في المنتصف، تفتش في الرماد عن بقايا وطنٍ يمكن أن يُرمم.

 

لم تتغير القصة كثيرًا؛ فقط تبدلت الوجوه، وبقيت المأساة تحمل الاسم نفسه: غياب الدولة الوطنية القادرة على احتضان شعبها، والدفاع عن استقلال قرارها، وصون كرامتها. حين يسقط المشروع الوطني، يصبح الوطن ساحةً لتصفية الحسابات بين الآخرين.

 

ومن قلب هذه الفوضى التي تحتضر فيها هويات دول، يطلّ تأثير مالي على مصر لا كقصة بعيدة، بل كتحذير قريب. فتمدد العنف في الساحل وتحول المنطقة إلى محورٍ مفتوح للجماعات الإرهابية، يعني أن الخطر يتحرك جنوبًا نحو الشمال الإفريقي، وأن القاهرة مطالبة بيقظة دائمة أمام موجات تهريبٍ وهجرةٍ غير شرعيةٍ قد تُثقل حدودها وتستنزف مواردها الأمنية.

 

وما يزيد الأمر حساسية، أن هذا الاضطراب يتقاطع جغرافيًا مع المثلث السوداني-الليبي-المصري، وهو الممر الأخطر في معادلة الأمن القومي. فحين تتسع دوائر الفوضى في الساحل، تقترب نيرانها من ذلك المثلث الذي تتقاطع فيه تجارة السلاح والهجرة غير الشرعية وامتدادات التنظيمات المتطرفة. ومع غياب الاستقرار في مالي، تُفتح الثغرات جنوب ليبيا وغرب السودان، ليصبح هذا المثلث نقطة اختبار حقيقية لقدرة مصر على حماية حدودها وعمقها الإفريقي في آنٍ واحد.

 

ثم هناك التنافس على النفوذ داخل القارة، حيث وجود القوى الكبرى في مالي — من روسيا إلى الغرب — يعيد رسم موازين جديدة تجعل مصر مطالبة بدورٍ أكثر حضورًا في إفريقيا، دفاعًا عن استقرارها وعن أمنها القومي. فالقضية ليست فقط عن مالي، بل عن حدود الأمن العربي والإفريقي التي باتت تتقاطع في خطٍ واحدٍ من الفوضى.

 

كما أن الاضطراب في مالي ينعكس على الأسواق الإفريقية وسلاسل الذهب والمعادن، ويؤثر في بنية الاقتصاد الإقليمي، ما يضع القاهرة أمام ضرورة التفاعل مع شركائها الأفارقة عبر التعاون التنموي والأمني، لتبقى حاضرة في معادلةٍ تُرسم بعيدًا عنها ولكنها تمسّها في العمق.

 

إنّ القاهرة تدرك أن استقرارها لا يُبنى على جدرانها الداخلية فقط، بل على استقرار محيطها الحيوي من الغرب إلى الجنوب. فحين تتهاوى دولة إفريقية، يرتجّ صدى السقوط في عصب الأمن القومي المصري، ويُذكّرنا أن الجغرافيا ليست حدودًا بل مسؤولية.

 

وهكذا تلتقي باماكو ودمشق على طريقٍ واحدٍ من الدمار، ترفرف فوقه أعلام الغرباء، وتُدفن تحته أحلام البسطاء. لكن التاريخ علّمنا أن الأوطان، مهما طال ليلها، لا تموت، بل تنزف لتتعلم كيف تنهض من جديد.

لأن الوطن لا يُستعار من أحد، ولا يُباع بحجة الأمن، ولا يُكتب له البقاء إلا بأيدي أبنائه.

اخبار أخري

جميع الحقوق محفوظة لجريدة الراي المصرية